فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{واللائى يئِسْن مِن المحيض مِن نّسائِكُمْ}
لِكبرهنّ وقد قدّرُوه بستين سنة وبخمسٍ وخمسين {إِنِ ارتبتم} أي شككتُم وجهِلْتُم كيف عدّتُهُن {فعِدّتُهُنّ ثلاثة أشْهُرٍ واللائى لمْ يحِضْن} بعدُ لصغرِهِنّ أي فعدّتهنّ أيضا كذلك فحذف ثقة بدلالةِ ما قبلهُ عليهِ {وأولات الأحمال أجلُهُنّ} أي مُنْتهى عدتِّهِنّ {أن يضعْن حمْلهُنّ} سواء كُنّ مطلقاتٍ أو مُتوفيّ عنهُنّ أزواجُهُنّ وقد نُسخ بهِ عمومُ قوله تعالى: {والذين يُتوفّوْن مِنكُمْ ويذرُون أزواجا يتربّصْن بِأنفُسِهِنّ أرْبعة أشْهُرٍ وعشْرا} لتراخِي نزولِهِ عن ذلك لما هُو المشهورُ من قول ابنِ مسعودٍ رضي الله عنْهُ: من شاء باهلتُه أنّ سورة النساءِ القُصْرى نزلتْ بعد التي في سورةِ البقرةِ، وقد صحّ أن سُبيعة بنت الحارث الأسلمية ولدتْ بعد وفاةِ زوجِها بليالٍ فذكرتْ ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال لها «قدْ حللتِ فتزوّجِي» {ومن يتّقِ الله} في شأنِ أحكامِهِ ومراعاةِ حقوقِها {يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} أي يُسْهلْ عليهِ أمرهُ ويوفِّقْهُ للخيرِ. {ذلك} إشارةٌ إلى ما ذُكِر من الأحكامِ، وما فيهِ من معْنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بالمُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهِ في الفضلِ. وإفرادُ الكافِ مع أن الخطاب للجمعِ كما يفصحُ عنه قوله تعالى: {أمْرُ الله أنزلهُ إِليْكُمْ} لِما أنها لمجردِ الفرقِ بين الحاضرِ والمنقضِي لا لتعيينِ خصوصيةِ المخاطبين وقد مرّ في قوله تعالى: {ذلك يُوعظُ بِهِ من كان مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله} من سورةِ البقرةِ {ومن يتّقِ الله} بالمحافظةِ على أحكامِهِ {يُكفّرْ عنْهُ سيئاته} فإنّ الحسناتِ يُذهبن السيئاتِ {ويُعْظِمْ لهُ أجْرا} بالمضاعفةِ.
وقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنتُم}
استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأ مما قبلهُ من الحثِّ على التّقوى كأنّه قيل كيف نعملُ بالتّقوى في شأنِ المعتداتِ فقيل أسكنوهنّ مسكنا من حيثُ سكنتُم أي بعض مكانٍ سكناكم. وقوله تعالى: {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وُسعِكم أي مما تطيقونهُ عطفُ بيانٍ لقولهِ من حيثُ سكنتُم وتفسيرٌ لهُ.
{ولا تُضارُّوهُنّ} أيْ في السُّكنى {لِتُضيّقُواْ عليْهِنّ} وتُلْجئوهنّ إلى الخروجِ {وإِن كُنّ} أي المطلقاتُ {أولات حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ} فيخرُجن من العدةِ، أما المتوفى عنهنّ أزواجُهنّ فلا نفقة لهُنّ {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ} بعد ذلك {فئاتُوهُنّ أُجُورهُنّ} على الإرضاعِ {وأْتمِرُواْ بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} أي تشاورُوا، وحقيقتُه ليأمرْ بعضُكم بعضا بجميلٍ في الإرضاعِ والأجرِ ولا يكُن من الأبِ مماكسة ولا من الأمِّ مُعاسرةٌ {وإِن تعاسرْتُمْ} أي تضايقتُم {فستُرْضِعُ لهُ أخرى} أي فستوجدُ ولا تُعوزُ مرضعةٌ أُخرى، وفيه معاتبةٌ للأمِّ على المعاسرةِ {لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مّن سعتِهِ ومن قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنفِقْ مما ءاتاهُ الله} وإنْ قلّ أي لينفقْ كُلُّ واحدٍ من الموسرِ والمعسرِ ما يبلغُه وسعُه {لا يُكلّفُ الله نفْسا إِلاّ ما ءاتاها} جلّ أو قلّ فإنّه تعالى لا يكلفُ نفسا إلا وُسعها وفيهِ تطييبٌ لقلبِ المُعسرِ وترغيبٌ لهُ في بذلِ مجهودِهِ وقد أُكِّد ذلك بالوعدِ حيثُ قيل {سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} أي عاجلا أو آجلا. اهـ.

.قال الألوسي:

{واللائى يئِسْن مِن المحيض}، وقرئ {ييأسن} مضارعا {مّن نِّسائِكُمُ} لكبرهن، وقد قدر بعضهم سن اليأس بستين سنة، وبعضهم بخمس وخمسين، وقيل: هو غالب سن يأس عشيرة المرأة، وقيل غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه فإن المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحاري يبطئ فيه سن اليأس، وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم، وهذا القول بالغ درجة اليأس من أن يقبل {إِنِ ارتبتم} أي إن شككتم وترددتم في عدتهن، أو إن جهلتم عدتهن {فعِدّتُهُنّ ثلاثة أشْهُرٍ}.
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه وجماعة عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل الله تعالى في سورة النساء القصرى {واللائى يئِسْن} الآية، وفي رواية أن قوما منهم أبي بن كعب.
وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى: {والمطلقات يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228] قالوا: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزل {واللائى يئِسْن} الخ، فقال قائل: فما عدة الحالم؟ فنزل {وأولات الاحمال} إلخ.
ويعلم مما ذكر أن الشرط هنا لا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم لأنه بيان للواقعة التي نزل فيها من غير قصد للتقييد، وتقدير متعلق الارتياب ما سمعت هو ما أشار إليه الطبري وغيره، وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن الخ، وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك، وقال الزجاج: المعنى {إِنِ ارتبتم} في حيضهن وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة، وقيل: {إِنِ ارتبتم} أي إن تيقنتم إياسهن، والارتياب من الأضداد والكل كما ترى.
والموصول قالوا: إنه مبتدأ خبره جملة {فعِدّتُهُنّ} الخ، {وأنْ ارتبتم} شرط جوابه محذوف تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، والشرط وجوابه جملة معترضة، وجوز كون {فعِدّتُهُنّ} إلخ جواب الشرط باعتبار الإعلام والإخبار كما في قوله تعالى: {وما بِكُم مّن نّعْمةٍ فمِن الله} [النحل: 53] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقدير، وقوله تعالى: {واللاتي لمْ يحِضْن} مبتدأ خبره محذوف أي واللائي لم يحضن كذلك أو عدتهن ثلاثة أشهر، والجملة معطوفة على ما قبلها، وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق وجعل الخبر لهما من غير تقدير، والمراد باللائي لم يحضن الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض.
واستظهر أبو حيان شموله من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لهن حيض البتة كبعض النساء يعشن إلى أن يمتن ولا يحضن، ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض، ثم قال: وقيل: هذه تعتدّ سنة.
{وأولات الاحمال أجلُهُنّ} أي منتهى عدتهن {أن يضعْن حمْلهُنّ} ولو نحو مضغة وعلقة ولا فرق في ذلك بين أن يكن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن كما روى عن عمر وابنه، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال: إذا وضعت حملها فقد حلت فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت.
وعن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى {وأولات الاحمال} إلخ نزل بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها، وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري بسبع سنين ولعله لا يصح.
وعن أبي هريرة وأبي مسعود البدري وعائشة وإليه ذهب فقهاء الأمصار وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج عبد بن حميد في (زوائد المسند) وأبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: {وأولات الاحمال أجلُهُنّ أن يضعْن حمْلهُنّ} أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟ قال: «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها» وروى جماعة نحوه عنه من وجه آخر، وصح أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، وفي رواية بخمس وعشرين ليلة، وفي أخرى بأربعين ليلة فاختضبت وتكحلت وتزينت تريد النكاح فأنكر ذلك عليها فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تفعل فقد خلا أجلها».
وذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أن الآية في المطلقات، وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها آخر الأجلين، وهو مذهب الإمامية كما في (مجمع البيان).
وعلى ما تقدم فالآية ناسخة لقوله تعالى: {والذين يُتوفّوْن مِنكُمْ ويذرُون أزواجا يتربّصْن} [البقرة: 234] الآية على رأي أصحاب أبي حنيفة ومن وافقهم من الشافعية لأن العام المطلق المتأخر ناسخ عندهم فأولى أن يكون العام من وجه كذلك، وأما من لم يذهب إليه فمن لم يجوز تأخير بيان العام قال: بالنسخ أيضا لأن العام الأول حينئذ مراد تناوله لأفراده، وفي مثله لا خلاف في أن الخاص المتراخي ناسخ بقدره لا مخصص، ومن جوز ذهب إلى التخصيص بناءا على أن التي في القصرى أخص مطلقا، ووجهه أنه ذكر في البقرة حكم المطلقات من النساء وحكم المتوفى عنهن الأزواج على التفريق، ثم وردت هذه مخصة في البابين لشمول لفظ الأجل العدتين، وخصوص أولات الأحمال مطلقا بالنسبة إلى الأزواج، وهذا كما يقول القائل: هندية الموالي لهم كذا وتركيتهم لهم كذا لجنس آخر، ثم يقول: والكهول منهم لهم دون ذلك أو فوقه أو كذا مريدا صنفا آخر يكون الأخير مخصصا للحكمين، ولا نظر إلى اختلاف العطايا لشمول اللفظ الدال على الاختصاص وخصوص الكهول من الموالي مطلقا كذلك فيما نحن فيه لا نظر إلى اختلاف العدتين لشمول لفظ الأجل، وخصوص أولات الأحمال بالنسبة إلى الأزواج مطلقا، وإن شئت فقل: بالنسبة إلى المطلقات والمتوفى عنهن رجالهن مطلقا فلا فرق قاله في (الكشف) ثم قال: ومن ذهب إلى أبعد الأجلين احتج بأن النصين متعاضدان لأن بينهما عموما وخصوصا من وجه ولا وجه للإلغاء فيلزم الجمع، وفي القول بذلك يحصل الجمع لأن مدة الحمل إذا زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت فيحصل العمل بمقتضى الآيتين، والجواب أنه إلغاء للنصين لا جمع إذ المعتبر الجمع بين النصين لا بين المدتين وذلك لفوات الحصر والتوقيت الذي هو مقتضى الآيتين اه فتدبر.
وقرأ الضحاك أحمالهن جمعا {ومن يتّقِ الله} في شأن أحكامه تعالى ومراعاة حقوقها: {يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} بأن يسهل عز وجل أمره عليه، وقيل: اليسر الثواب {ومِنْ} قيل: للبيان قدم على المبين للفاصلة، وقيل: بمعنى في، وقيل: تعليلية.
{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الفضل، وإفراد الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى: {أمْرُ الله أنزلهُ إِليْكُمْ} لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين {ومن يتّقِ الله} بالمحافظة على أحكامه عز وجل {يُكفّرْ عنْهُ سيئاته} فإن الحسنات يذهبن السيآت {ويُعْظِمْ لهُ أجْرا} بالمضاعفة، وقرأ الأعمش {نعظم} بالنون التفاتا من الغيبة إلى التكلم، وقرأ ابن مقسم {يعظم} بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا، وقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنتُم} استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: {أسْكِنُوهُنّ} الخ، و{مِنْ} للتبعيض أي أسكنوهن بعض مكان سكناكم، ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد في بعض نواحيه كما روى عن قتادة.
وقال الحوفي وأبو البقاء: هي لابتداء الغاية، وقوله تعالى: {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله تعالى: {مِنْ حيْثُ سكنتُم} على ما قاله الزمخشري، ورده أبو حيان بأن لا يعرف عطف بيان يعاد فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا، وتعقب بأن المراد أن الجار والمجرور عطف بيان للجار والمجرور لا المجرور فقط حتى يقال ذلك مع أنه لا يبرد له بسلامة الأمير وأنه لا فرق بين عطف البيان والبدل إلا في أمر يسير، ولا يخفى قوة كلام أبي حيان.
وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة {مّن وُجْدِكُمْ} بفتح الواو.
وقرأ الفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرها وذكرها المهدوي عن الأعرج والمعنى في الكل الوسع {ولا تُضارُّوهُنّ} ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى {لِتُضيّقُواْ عليْهِنّ} فتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه ونحو ذلك {وإِن كُنّ} أي المطلقات {أولات حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ} فيخرجن عن العدة، وأما المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن عند أكثر العلماء.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود تجب نفقتهن في التركة، ولا خلاف في وجوب سكنى المطلقات أولات الحمل ونفقهتهن بت الطلاق أو لم يبت.
واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الاتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات.
فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيدة: للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها.
وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور والإمامية: لا سكنى لها ولا نفقة لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «طلقني زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد»، وقال أبو حنيفة والثوري: لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل، ودليله أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المبتوتة: «لها النفقة والسكنى» مع أن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان جزاءا للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به.
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود {أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم} ومن خص الانفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على النافين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط هاهنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطريق الأولى كما في (الكشاف) فهو من مفهوم الموافقة.
وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر وعائشة وسليمان بن يسار والأسود بن يزيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم.
{فإِنْ أرْضعْن لكُمْ} أي بعد أن يضعن حملهن {فئاتُوهُنّ أُجُورهُنّ} على الارضاع {وأْتمِرُواْ بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} خطاب للآباء والأمهات، والافتعال بمعنى التفاعل، يقال: ائتمر القوم. وتآمروا بمعنى، قال الكسائي: والمعنى تشاوروا، وحقيقته ليأمر بعضكم بعضا بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة، وقيل: المعروف الكسوة والدثار {وإِن تعاسرْتُمْ} أي تضايقتم أي ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحة في الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك {فستُرْضِعُ لهُ أخرى} أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى، وفيه على ما قيل: معاتبة للأم لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه: سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم.
وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصا من الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب، والكلام على معنى فليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء، وقال بعض الأجلة: إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضا حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلابد من إرضاع امرأة أخرى، وهي أيضا تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى، وبذلك يظهر كمال الارتباط، والأول أظهر فتدبر، وقيل: {فستُرْضِعُ} خبر بمعنى الأمر أي فلترضع، وليس بذاك، وهذا الحكم إذا قبل الرضيع ثدي أخرى أما إذا لم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا: تجبر على الإرضاع بأجرة مثلها.
{لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مّن سعتِهِ ومن قُدِر} أي ضيق {عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنفِقْ مما عبْدُ الله} وإن قل، والمراد لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه، والظاهر أن المأمور بالانفاق الآباء، ومن هنا قال ابن العربي: هذه الآية أصل في وجوب النفقة على الأب، وخالف في ذلك محمد بن المواز فقال: بوجوبها على الأبوين على قدر الميراث، وحكى أبو معاذ أنه قرئ {لِيُنفِقْ} بلام كي ونصب القاف على أن التقدير شرعنا ذلك لينفق.
وقرأ ابن أبي عبلة {قُدِر} مشدد الدال {لا يُكلّفُ الله نفْسا إِلاّ ما} أي إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة، وقيل: ما أعطاها من الأرزاق قل أو جل، وفيه تطييب واستمالة لقلب المعسر لمكان عبارة {عليْها أتاها} الخاصة بالإعسار قبل وذكر العسر بعد، واستدل بالآية من قال لا فسخ بالعجز عن الانفاق على الزوجة، وهو ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة وجماعة.
وعن أبي هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحق يفسخ النكاح بالعجز عن الانفاق ويفرق بين الزوجين، وفيها على ما قال السيوطي: استحباب مراعاة الإنسان حال نفسه في النفقة والصدقة، ففي الحديث «إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدبا حسنا إذا هو سبحانه وسع عليه وسع وإذا هو عز وجل قتر عليه قتر»، وقوله تعالى: {سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} موعد لفُقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفُقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا، وهو على الوجهين تذييل إلا أنه على الأول مستقل، وعلى الثاني غير مستقل. اهـ.